لا يوجد شيء في الدنيا يزعجني أكثر من الجلوس دون فائدة، ودون أن أفعل شيئاً يفيدني أو يفيد الآخرين من حولي، فلا بد لي من عمل ذي شأن أقوم به من حين لآخر، بل في كل وقت وحين، ولا بد أن يكون فعلاً نافعاً. وكثيراً
د. طارق البكري
كلية التربية الأساسية - قسم اللغة العربية
يوم مختلف
لا يوجد شيء في الدنيا يزعجني أكثر من الجلوس دون فائدة، ودون أن أفعل شيئاً يفيدني أو يفيد الآخرين من حولي، فلا بد لي من عمل ذي شأن أقوم به من حين لآخر، بل في كل وقت وحين، ولا بد أن يكون فعلاً نافعاً. وكثيراً ما أشغل نفسي بالنافع من الأمور، وغالباً ما أقضي الأوقات الثمينة بالقراءات المتنوعة المفيدة إن لم يكن هناك من عمل مجدٍ يفترض أن أقوم به.
وليست القراءة عندي مخصصة لأوقات الفراغ، فهذا مفهوم خاطئ للقراءة بلا شك، لأن القراءة يجب أن يخصص لها الوقت الأهم، ولا تكون للوقت الضائع، حتى وإن كان لهذا الوقت "قراءات" لا بد منها بدلاً من استهلاك الوقت بما لا ينفع. لا سيما أني اعتدت على ألا أهتم كثيراً بالألعاب والإلكترونية، والجلوس مدداً طويلة أمام شاشة التلفزيون أو الشاشات الموصولة بالإنترنت، من الأجهزة الذكية أو ربما "غير الذكية".. بل أعطيها من الوقت ما تستحق من حاجتي إليها، لا أكثر ولا أقل، ولا أدعها تسيطر علي نفسي وتتحكم بوقتي وراحتى وسعادتي.
وعندما يكون نهاري مليئاً بالنشاط والعمل إلى جانب القراءة؛ يكون يومي جميلاً.. لكن وكما هو معلوم فإن الأيام الجميلة سريعاً ما تنقضي. ومن طبيعتي أني أحب الحركة الدائمة، مثل كثير من الأطفال الذين هم في مثل سني.. والهدوء المبالغ فيه بلا سبب قد يكون في حالات كثيرة شديد الإزعاج، لا أدري كيف؟! لكنها الحقيقة التي يعرفها من يجربها، فكلما ارتفعت نسبة الهدوء غير المستثمر ارتفعت في مقابله نسبة الملل..
فبالرغم من أن القرى البعيدة النائية غالباً من تتمتع بهدوء ساحر، وتنعم بسكينة شبه دائمة حتى الملل في غالب الأحيان، فإن الطيور عندما تسترسل في الغناء تشعر من غنائها أنها ملت، لكنها مع ذلك تستمر في غنائها وطربها حتى تنقطع أنفاسها.
قد أكون مخطئاً.. لكنه الواقع؛ فكثير من أهل القرى البعيدة عن المدن الكبيرة يشتكون من أن ما ينامون عليه يستيقظون عليه، أما من يأتي من المدن إما للزيارة أو للاصطياف أو للمكوث بعض الوقت؛ فلن يشعر كما يشعر المقيم في تلك القرى البعيدة بشكل دائم، حيث تكون المستجدات قليلة، وعدد السكان محدود، وغالباً ما يكون السكان من كبار القرية وصغارها، أما الشباب فغالباً ما يخرجون منها للعمل معظم النهار، وربما يقضون أياماً طويلة خارجها، وقد لا يأتون إليها إلا في نهاية الأسبوع، بل إن كثيراً من أهل القرى قد يسافرون شهوراً عديدة إلى أمكنة بعيدة سعياً وراء الرزق، وقد يمضي بعضهم ما بين عام وعامين وربما ثلاثة أعوام وأكثر بعيداً عن قراهم وبلدانهم.. ثم يأتون لأيام وأسابيع تمر سريعاً ثم يرحلون.
هذه حالنا التي نشأنا عليها..
نعيش بهدوء تام ولا يكسر هذا الهدوء في كثير من الأحيان سوى صياح ديك في الصباح أو صهيل حصان عائد من العمل في الحقول.
الناس في قريتنا تعيش في سلام، ومنذ أن تفتحت عيناي على هذه القرية وأنا أراها تغفو حتى وهي صاحية..
تنام مستيقظة وتستيقظ نائمة.. تمضي الحياة في أزقتها وشوارعها وبساتينها وتلالها وهضابها وسهولها هانئة مطمئنة البال، دون أن يعكر صفوها شيء.
إلى أن جاء يوم مختلف تماماً؛ لا يعرف مثله منا أحد كما أنه لم يكن في حسبان أحد..
كان صباحاً صاخباً لم تشهد قريتنا مثيلاً له في يوم من سابق الأيام.
كان يوماً في بدايته مثل سائر الأيام؛ هدوء "مزعج" للغاية.. وبخاصة بالنسبة لي لكسر أصاب قدمي وألزمني المكوث في البيت لأيام، وكنت أتنقل ما بين كتاب وكتاب.. حتى شعرت كأني أصبحت جزءاً من المكتبة.. ورغم ما أشعر به من جوعي الدائم للقراءة فإني كنت أحتاج للخروج والتفسح قليلاً بعد أيام من السجن الاضطراري بين أربعة حيطان.
ودون مقدمات؛ ضجيج عال جداً.. صياح وصراخ وزعيق.. أصوات مرتفعة ملأت الأمكنة شرقاً وغرباً.. شمالاً وجنوباً.. على غير طبيعة قريتنا الهادئة الهانئة.. أصوات عالية تتردد بلا انقطاع.. مع حركة مريبة في الجوار.. صبيان يتنططون.. يتقافزون.. يركضون في الأزقة الضيقة.. متجاورين حيناً.. ومتباعدين أحياناً أخرى. خلف بعضهم مرة، مثل سلسلة بشرية، أو كجنود في صف طويل منضبط الخطوات.. ومتقاربين ومتلاحمين مرة أخرى..
متراصين تارة..
في سلسلة متباعدة حلقاتها أو متصلة تارة أخرى..
لكنها على الدوام متعرجة متفرقة بلا انتظام أو ترتيب.. يسابق بعضهم بعضاً..
يهرعون كأنهم في سباق الجائزة الكبرى.. يقفزون كأنهم صيود تخشى فك أسد مفترس عجوز، فاغر الفاه، فر من محبس سجان شحيح بخيل، لا يطعمه إلا القليل.. وإذا أطعمه فطعامه بسيط خفيف لا يسمن ولا يغني من جوع.
أفكار كثيرة تراءت أمامي في لحظات.. ثم وبشكل فجائي غير متوقع؛ ظهر من خلفهم وهم يتسارعون خلف بعضهم كسيل جارف رجل يعرفه الجميع، كان ينطلق وراءهم مثل سهم أحمر.. كان الرجل حلاق قريتنا الغريب الأطوار.
ظهر فجأة دون توقع مهرولاً خلفهم كأسد مفترس غاضب، قرر مسبقاً أن ينشب أظفاره، ويفتك بالفرائس التي يلاحقها مهما كانت الصعاب والتحديات.. برز من مخرج الزقاق الضيق الملاصق للساحة التي تتوسط القرية..
الزقاق يبدو كأنه نهر من الأحجار الكريمة المرصوصة بعناية ودقة وإحساس فنان.. يمضي طويلاً برشاقة بين بيوت حجرية قديمة أنيقة..
كان يركض مسرعاً..
مسابقاً ومطارداً.. متقدماً ومتراجعاً.. كأنه قول الشاعر الجاهلي امرئ القيس في وصف فرسه الجموح، (أو ربما نفسه وهو يقود فرسه):
مِكَـرٍّ مِـفَــرٍّ مُقْبِلٍ مُـدْبِــرٍ مَعــاً ....... كَجُلْـمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ
تراه حيناً رافعاً سبابة يده اليمنى، مهدداً ومزمجراً، وفي يده الأخرى عصا طويلة، من خشب مصقول لماع.. على جانبها نقش لأنواع من الطيور.
وبقبضته اليسرى يتوكأ على شكل طير خشبي مشغول بدقة مبدع بارع، يتوسد رأس العصا بحنان بالغ، يستعين بها بين القفزة والقفزة، دون أن يلوحَ كثيراً بالعصا الطويلة ليخيف الصبيان الصغار الذين هم كعادتهم يحبون اللهو والمشاكسة والمعاكسة والمخالفة.
والجميع يعرف أن كثيراً من الصبيان لا يحبون أَن يملي عليهم أحد ما الذي يَجب أَن يفعلونه.. مثل صديقي ماضي المعروف بأنه مشاكس معاكس. إذا قالت لَه أمه: "تعالَ لتَدرس"، ذَهبَ وجلسَ أمامَ التلفزيون.. وإذا قالَ له أبوه: "اخفض صوتَ التلفزيون"، رَفَعَ الصوتَ عالياً.. وإذا قالت له المدرسة: "أريد وظيفتكَ غداً"، قدمها في الأسبوع التالي. وإذا طلبَ منه أي إنسانٍ طلباً ما، كانَ يعاكسه ويشاكسه..
فهوَ لا يحب أن يقولَ له أحد افعَل أَو لا تفعل.. ويصر على مواقفه المعاكسة مهما كانت العقوبات أو المغرَيات.
في يوم.. وفيما كان ماضي عائداً منَ المَدرسَة.. رأى لَوحة تقول: (رجاءً.. لا تمش على هذا الرصيف).. نَظر ماضي إلى اللوحة بغَضب، فهوَ لا يحب الأوامر.. سار وسطَ الرصيف متَحَدياً.. صاحَ به رجل من أَعلى البناء المجاور: "ابتَعد يا صبي.. ابتَعد عن الرصيف"، لكنه أصر على السير، وإذ بكمية كبيرة منَ الأَصباغ تَنهمر عليه ويصبح شَكله مضحكاً.. فَقَد كانَ هنَالكَ رجَالٌ يَصبغون المبنى بألوان مختلفة.. وعندما شَاهَده المارون راحوا يَضحَكون ويَضحكون.
والعم أبو فراس يتعرض في بعض الأحيان لمشاكسات الأطفال..
لكنه رغم ذلك يبقى محافظاً على هدوئه، وإن كان يبدو غريب الطبع في كثير من الأوقات، فلم يكن يخرج عن طوره.. ويظل غضبه ضمن حدود المعقول، فلا يثير مشكلة، ولا يفتعل قضية.
وهذه المرة لم تكن مثل كل مرة، فإن هؤلاء الصبيان - كما يبدو - تجاوزوا كل حدود المشاكسة والمعاكسة المعهودة مع العم أبو فراس الحلاق، وأكثر بكثير من أي مرة سابقة..
وكما يعلم الجميع فإن أبو فراس رجل طيب القلب رصين الطباع، يبدو هادئاً وديعاً أمام الناظرين للوهلة الأولى، لكنه لا يلبث أن ينقلب رأساً على عقب دون مقدمات إذا غاظه أحد أو أغضبه، وينطلق صياحه وزعيقه بطريقة عصبية غريبة تدهش كل من حوله، لذا كان الناس في قريتنا يتجنبون إثارة غضبه، كما كان هو أيضاً يتجنب الوقوع في مثل هذه العصبية الفريدة.. ولهذا كان من النادر جداً أن يسمع الناس صوته أو يرونه غاضباً.
مشاهد تثير الضحك
المتأمل لهذا المشاهد الغريبة وغير المتوقعة لا بد وأن يصاب بنوبات متفاوتة من الضحك..
فقد بدا عنقه طويلاً مديداً أكثر من الطبيعي فيما هو يركض ويتلوى بعرجته خلفهم، وقد ظهر جسده قصير منحنٍ قليلاً إلى الأمام، كرجل عجوز ذي ظهر مقوس، رغم أنه ما زال في فتوته، ولم يغادر بعيداً سن الشباب، وأمامه فترة مديدة من الكهولة قبل الشيخوخة.
كان شنب العم أبو فراس مروساً كرأس حربة، حاد قلق، بدا مستنفراً غاضباً مثل صاحبه، يتخلله شريط بياض محترق بفحم شعره الداكن القديم..
عظم الخدين ناتئ يمتزج مع قليل لحم بوجه بارز الشفتين..
لحم الكتفين قليل..
نحيل من الأعلى ضعيف من الأسفل..
فقرات الرقبة بارزة، وعظام الكتفين نتوءات من خلف قميص مشدود بخفة صيفاً وشتاءً، والقفص الصدري يظهر كخطوط رفيعة متعرجة مستديرة إلى الخلف..
وبعد الانزلاق من ناحية الصدر يتسع امتداد الجسم عرضاً ثم يمتد البطن بكرش بارز متدل بليونة، ثم يعود لنحافة لا تتسق مع اتساع وسط جسده..
يبدو متناقضاً مع الساعة الرملية ذات العنق الأوسط الدقيق والانتفاخ العلوي والسفلي، فهو يظهر كالباذنجانة الرفيعة من الأعلى المتضخمة وسطاً ثم تستدير نحافة حتى نقطة النهاية، حيث تعود النحافة بشكل غير انسيابي بفخذين نحيلين وساقين دقيقتين فتبدو مشيته قلقة متذبذبة.. فكيف عندما يهرول ويركض فترتفع العنق وتتحرك جيئة وذهاباً تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف.. مثل عنق دجاجة بركضتها الطريفة عندما تجذ بالسير..
وترى كرشه المندلق بسخاء إلى الأمام يتلاعب به الهواء مثل شراع مركب صغير في بحر هائج.
أما خُلقه الضيق كعنق زجاجة شفافة بالغة الضيق، وكذلك عصبيته التي بدت زائدة عن حدها المعتاد، والتي قد تكون زيادتها عادية لدى بعض الناس فيما يرفضها البعض الآخر..
كان في دكانه مثل تمثال جامد متحجر، لا يغادر جدرانه الأربعة إلا للضرورة القصوى، ومن شدة عصبيته يعارك حتى ذباب وجهه كما يقولون.
مع أن الحلاقين في العادة يتحلون بصبر فائق، مستفز أحياناً، وقد يمتازون بروح فكاهية مرحة ضاحكة وإن كانت مفتعلة، كما يحرصون على التمتع بخيال خصب متدفق.. فهذه السمات معروفة عند كثير من الذين يمتهنون مهنة الحلاقة، وهي مهنة جميلة لطيفة، تحتاج إلى مهارة خاصة ودقة في العمل، وإحساس فنان لكي يكون الحلاق متميزاً في عمله.
ومهنة الحلاقة مهنة قديمة جداً، وكان الحلاق في الماضي لا يكتفي بحلاقة شعر الرأس والذقن بل يعتبر طبيباً شعبياً، يعالج بعض الأمراض التي كانت منتشرة في الأيام الغابرة.. وكان يقوم بخلع الأسنان والأضراس ويجري عمليات جراحية بسيطة.
ومن طرائف ما يقال: إن الحلاقة بدأت أولاً بسبب الحروب، فكان يتم حلاقة شعر الجنود ولحاهم قبل بدء القتال، كيلا يمسك الأعداء بالشعر أو باللحى خلال المعركة، وهناك من الحلاقين من يسرد قصصاً صحيحة معلومة، يروونها بجدارة، يقدم البعض منهم أنفسهم على أساس أنهم علماء في التاريخ والجغرافيا والحساب والتراث والعلوم الإنسانية والنفسية والطبية، وحتى السياسية والعسكرية.. أو يظنون أنفسهم شعراء وأدباء وكتاباً ومحللين اقتصاديين واجتماعيين..
ومن هؤلاء من هو سطحي مدعٍ، أو جاهل مغرق في الجهل، وفي الحالين هم يجمعون أخبارهم وقصصهم ورواياتهم بالسماع من زبائن قد لا يملكون من العلم إلا قليلاً، فيخلطون ما بين الجيد النافع والرديء الضار، وما بين الصحيح والعليل.. وما بين الجد بالهزل.
وربما وصل الأمر بأحدهم أن ظن نفسه موسوعة متنقلة.
كما أن من بينهم من يتمتع بخصلة فريدة متميزة، قد يراها بعض الزبائن سيئة، فيما يراها البعض الآخر فرصة للتسلية وتمضية الوقت تحت مقص الحلاق أو "لسانه"، وهي حب الكلام الزائد والحكي الكثير لغاية الثرثرة.. وحتى لو كانت هذراً بلا معنى، المهم عندهم أن يتكلموا مع الزبون "حتى آخر شعرة".. فضلاً عن القيام بما يحبب الأطفال فيهم وإن كان تهريجاً، لكي يكسبوا ودهم، وبالتالي يكسبون عدداً أكبر من الزبائن..
فالتسويق للبضاعة فن في علم "التجارة" و"المنافسة" التي قد تكون نظيفة وشريفة، أو غير نظيفة وشريفة، فيصبح التسويق للتزييف أهم أحياناً كثيرة من البضاعة نفسها، وربما كان التسويق مجمِّلاً للقبح، فيجعل من البضاعة السيئة بضاعة حسنة، والبضاعة الرخيصة بضاعة غالية، فيقلب الحقيقة حتى يجعل الدميم في أعين الزبائن حلواً مزركشاً، بل قد يجعل أخس الممتلكات كـ"حمر النعم"، مثل العبارة التي وردت في سياق حديث نبوي شريف ويقصد بها الإبل الحمر، وهي أنفس وأغلى أموال العرب قديماً..
وقد قيل في الأمثال: "قَنِعَ من زمانهِ بالنَّصيب الأَخَسّ"، أي الأقل والأدنى، وهذا مما لا يليق بصاحب الفكر والمعرفة وذي الشأن.
ومن طرائف الحلاقين قديماً؛ أن جحا دخل محلاً للحلاقة ليحلق ذقنه، وكان الحلاق غير بارع.. كلما جرح جحا جرحاً وضع الحلاق عليه قطناً.. ولما أتم نصف ذقنه وقف جحا وقال له: "كفى.. خذ أجرتك". فسأله الحلاق: "لماذا لا تصبر حتى أنتهي؟". فأجابه جحا: "لأنك زرعت نصف ذقني قطناً، ومرادي أن أزرع النصف الآخر كتاناً".
أما العم أبو فراس فحاله مختلف، بل على النقيض من ذلك تماماً، فهو محترف أشد الاحتراف.. والجميع يشهد له بذلك، كما أنه لا يتكلم كثيراً.. ولا يحب تسلية الزبون لا بالمزاح ولا بالكلام، حتى الكلام المحدود البسيط له ألف حساب عنده. ويضيق صدره من الجميع، وخاصة من الأطفال.. لذلك رفع يافطة كبيرة على باب محله يقول فيها: (ممنوع دخول الأطفال).
وفي الجهة المقابلة علق يافطة أكبر من الأولى كتب عليها بخط متعرج، لكنه جميل وبسيط: (عذراً.. لا أحلق شعر الأطفال). وكما يبدو فإنه وضع اليافطة الثانية ليؤكد اليافطة الأولى، احترازاً من احتمال أن لا يرى الأولى بعض الزبائن، أو ربما قد "يطنشها" البعض الآخر، أو قد يظن ظان أن المقصود أنه يمنع دخول الأطفال الذين لا عمل لهم.
لم يكن أحد يدري ما هو السبب الذي يجعل العم أبو فراس يكره الأطفال، وهل هو فعلاً يكره الأطفال أم يكره فقط الحلاقة لهم!! كان الأمر أكثر من لغز يحير أهل القرية كلها، فلا هو يفصح عن سبب ذلك، ولا هو يجيب سائلاً إذا سأله، فاعتاد الناس على حاله كما هي، ورضخ الجميع لرغبته واذعنوا.
كان من النادر أن يسمع أحد صوته من خارج الدكان.. لا يتكلم إلا قليلاً وعند الحاجة فقط، وكأنه يعد كلامه ويحسب كلماته كلمة كلمة.. يكتفي برد التحية على من يلقيها.. أو قد يشير بيده مرحباً وراداً للسلام..
لكنه اليوم بدا مختلفاً..
سمع كثير من الناس من حول الدكان والزقاق والساحة صوته يتردد في الأنحاء.. لم يكن صوته يصل إلى باب دكانه من قبل بالرغم من عصبيته، فكان أمراً جديداً مختلفاً، وحدثاً سيصبح فيما بعد حكاية يرويها الكبار والصغار.
صاح العم أبو فراس هذه المرة بصوت أعلى من أي مرة سابقة، حيث إنه لم يعرف يوماً أنه صاح أو رفع صوته، فسمعه كل من في الحارة من خلف نوافذ بيوتهم.. هب كثير منهم ليتابعوا هذا المشهد الشيق الطريف.. وبخاصة أنه من النادر أن يمشي في شوارع الحارة وأزقتها وحاراتها.. فدكانه له باب خلفي يقوده مباشرة إلى بيته، يعني أنه لا يحتاج لكي يخرج من الدكان حتى يذهب إلى بيته.. فبيته هو دكانه.. ودكانه هو بيته.
وكان يشترى ما يحتاج من حاجيات بسيطة من حانوت مجاور.. ولا يذهب بعيداً ولا يمشي كثيراً..
واليوم غير عاداته وقوانينه.
كان يقفز خلف صغار الحارة ماطاً شفتيه حتى تكاد شفته السفلى تقع على الأرض من شدة المط..
الناس يطلون من الشرفات والنوافذ يضحكون وهم يخفون أسنانهم حتى لا يراها الجيران على الشرفات والنوافذ المقابلة، وقد ينادي بعضهم بعضاً لمشاهدة هذا المشهد العجيب..
لكن أحداً منهم لم يناد ولده في حلبة المطاردة العنيفة لكي يعود إلى بيته ويترك العم أبو فراس وحاله.
كأنهم جميعاً أرادوا ألا ينتهي هذا المشهد المضحك، وهم متأكدون أنه سينتهي على خير لأنهم يعلمون أنه ليس من طبع أبو فراس أن يؤذي أحداً.. حتى الفأرة لو دخلت دكانه يقوم بطردها دون أن يقتلها، فهو كما يقولون في الأمثال: (كافٍ خيره وشره).
والهجوم الذي شنه أبو فراس على صغار الحارة لا يعني أنه يبغض الأطفال.. لكنه لم يكن يريد أن يراهم أو يذكر أحد من زبائنه اسم طفله، أو يحكي نادرة واحده عنه، فهو لا يريد أن يتذكر طفولته التي لا يعلم أحد شيئاً عنها.