في الستينيات من القرن الماضي، وفي أحد سجون ألمانيا، كان السجناء يعانون من سوء معاملة حراس السجن وقسوتهم، وكان ( شميدث ) أحد السجناء المحكوم عليهم
أ.نفلة الحربش
عضو هيئة تدريب -قسم التربية العملية
كلية التربية الأساسية
في الستينيات من القرن الماضي، وفي أحد سجون ألمانيا، كان السجناء يعانون من سوء معاملة حراس السجن وقسوتهم، وكان ( شميدث ) أحد السجناء المحكوم عليهم بالسجن لمدة طويلة، إلا أنه يحظي بمعاملة مميزة تعكس احترام السجانون وتعاطفهم معه، مما أدهش زملاءه في السجن وجعلهم يجزمون بأنه عميل زُرع بينهم لينقل أخبارهم للأجهزة الأمنية. حاول شميدث إقناعهم بعكس ذلك ونفي كونه جاسوسا بينهم، لكن تلك المعاملة المميزة لحراس السجن له لم تكن معينة لتصديقه، فاضطره ذلك للكشف عن "سحره"، سألهم: ماذا تكتبون في رسائلكم الأسبوعية لأقاربكم في الخارج؟؟، فكانت إجاباتهم بأنهم يشتكون فيها من قسوة السجن والسجانين وكرههم لهم، فأخبرهم أن رسائله لزوجته كانت تحمل في سطورها الأخيرة كلمات تصف محاسن حراس السجن بل ويذكر بعضهم بالاسم ويثني عليهم وذلك لأنه متأكد من أن رسائله تفتح وتقرأ من قبل الحراس قبل إرسالها... وبعد أسبوع من المصارحة، تغيرت معاملة الحراس فأصبحوا أشد قسوة ونال شميدث أعنفها!!.. ليكتشف أن زملاءه قد كتبوا لأقاربهم: "لقد علمنا شميدث طريقة سنخدع بها حراس السجن الملاعين، وسنكسب ثقتهم ورضاهم بمدحهم كذباً".
كان سحر شميدث كلمات أحسن كتابتها وآمن بأثرها فحركت وجدان سجانيه وغيرت من حالهم، وأنستهم معه طبيعةً قاسيةً فرضها عملهم عليهم. كلمات قد تدير بوصلة أحدهم ليكون شخصاً آخر، قد تغير فكره، أهدافه، توجهه، أو حتى مبادئه.
نصادف دائماً من يتحدث عن زميل أو قريب نال منزلة ما ومحبة من محيطه فيشكك بأحقيته بها ويظن به الظنون .. منافق، متحذلق، "مساح جوخ"، أو حتى "مسوي عمل"!!، وقد يقصيه هذا الظن!! .. وما كان ما هو عليه إلا من طيب ولين كلماته.
"الناس توجعهم الكلمة القاسية وتسعدهم الكلمة الطيبة، وإن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من وخز الإبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر" ـ لقمان الحكيم . نحن نجهل عظم الكلمات وما يمكنها فعله، فنطلقها كفلتات لسان دون تفكير، كثرثرة، فلا نعي على أي وجه حملتها قلوب من حولنا أو على أي حال كانوا هم عندما سقطت على مسامعهم، فنتهمهم بالحساسية المفرطة وعدم تقبلهم للـ "نقد" أو للـ "مزاح"، ولا نعترف بفظاظتها و لا نرى ثوب التنمر الذي كساها.
في "رواية البؤساء" عبر فيكتور هيجو عن لحظات التعب التي تمر بالإنسان فقال: "ثمة لحظات تكون فيها الروح جاثية على ركبتيها، مهما كان وضع الجسد". هذه اللحظات تتجمد وتتجند حواس الإنسان فيها للألم، يكون في ظاهره كصفحة ماء بحيرة في يوم ربيع هادئ وباطنه بركان يوشك على الانفجار. فإن سُلق بألسنةٍ حداد تلاشت منه الغاية من وجوده، وإن أصابه طلّ من كلمات سالت أودية روحه وهدأت نفسه.
قد تسقط كلمة فتكون كالثقل الذي يغرق الروح في بحر من ظلمات الأسى والحزن، وقد تأتي كلمة كقبلة حياة تعيد أنفاس الأمل والتفاؤل.
قال عليه الصلاة والسلام: "الكلمة الطيبة صدقة".
أنزلوا كلماتكم منزلاً طيباً في قلوب الآخرين وأحسنوا اختيار لحظات بذرها ليطيب حصاد أثرها.